هي ليست مصادفة أن يسود التباين في لبنان أثناء تأليف حكومة مصطفى أديب بشأن حقيبة المالية، في زمن مئوية دولة “لبنان الكبير”. ولا هي مصادفة أيضاً أن يطرح في هذا الوقت بالذات الراعي الدولي للبلد رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون ضرورة تغيير الصيغة السياسية السائدة. ولا ايضاً هي مصادفة أن تتدرّج المتغيرات الإقليمية بشكل جوهري عماده التطبيع بين دول عربية وإسرائيل. ولا هي مصادفة أن تعيد عملية تأليف الحكومة إنعاش دور فؤاد السنيورة، الذي يلعب دوراً أساسياً يفوق ما يقوم به زملاؤه في لجنة رؤساء الحكومات السابقين، في توجيه الرئيس المكلف مصطفى أديب. ولا هي مصادفة أن يُصبح سعد الحريري رأس حربة ضد رئيس مجلس النواب نبيه بري. ولا أيضاً مصادفة أن يعيد سمير جعجع حسابات “القوات” إلى تموضع مستجد خلف رؤساء الحكومات السابقين، بعد تباعد معراب وقريطم في المرحلة الأخيرة. ولا هي المصادفة أن يصبح موقف العهد الرئاسي والحريري موحّداً بدعوة مصطفى إلى تقديم تشكيلة لا تكون فيها حقيبة المالية من حصة الثنائي الشيعي.
كلّها محطّات توحي بأنّ هناك مستجدّات عابرة للحدود اللّبنانية تتوالى، لكنّها لا تطمس حقيقة وجود أزمة نظام.
أوّلاً، قد يكون قلق العهد من العقوبات التي لاحت ضد أبرز رجالاته: مستشاره سليم جريصاتي، هي التي دفعته إلى التخلي عن حلفه مع “حزب الله” بدعوته إلى المداورة في الحقائب، تحت طائلة ما سأل عنه جبران باسيل: هل هناك توجّه للمثالثة؟
ثانياً، ربما يكون تخلّي الحريري عن عين التينة هو من باب إرضاء واشنطن الساعية لتحجيم “حزب الله” عبر حصار وضغوطات ترجمت أحد أوجهها العقوبات على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس. أو يتماهى “الشيخ سعد” مع موقف السنيورة الذي يقدّم نفسه كرئيس لمصلحة تشخيص النظام. فهل يسترضي الحريري الأميركيين أم السعوديين؟ أم يحاكي الجمهور السنّي لإعادة فرض نفسه زعيماً أوحد بعد إرباك أصيب به جرّاء منافسة شقيقه بهاء له بين صفوف التيار الأزرق؟
ثالثاً، لا يخفي الفرنسيون سعيهم لبت أمر الحكومة اللّبنانية، لكن لا يمكن لهم سحب أيدي جميع القوى السياسية، وإبقاء دور رؤساء الحكومات السابقين في تحديد الأسماء والحقائب، ولاحقاً الدور والتوظيف السياسي والاقتصادي. هنا بدت أول ملاحظة: إنّها لعبة عزل وإقصاء مكوّنات طوائفية وسياسية لا تقتصر فقط على الشيعة، بل تطال المسيحيين والدروز.
رابعاً، فرض موضوع حقيبة المالية نقاشاً جوهرياً مؤجلاً: النظام الطائفي الذي يعطي للمكونات أدوارها نتيجة أعراف لا بموجب نصوص. فلنفترض أنّ المسلمين بكل مدراسهم المذهبية والسياسية طلبوا المداورة في قيادة الجيش وحاكمية المصرف المركزي والقضاء والمديريات المالية. ولنفترض أنّ المسيحيين الأرثوذكس والكاثوليك طالبوا بلعب دور أساسي أيضاً في مناصب إدارية وسياسية. كلّها تفاصيل لعنوان واحد: تخلخل النظام الطائفي نتيجة الاحتضار.
ما هو الحل؟
قد يفرض الثنائي الشيعي التمسك بحقيبة المالية، لكنّ الأزمة لن تنتهي هنا، لأن السخط الشعبي يزداد من جراء نظام ظالم غير إنساني. ماذا سيفعل الجيل الصاعد؟ لن يتفرج على صيغة بالية تجاوز عمرها مئة عام من الفشل. فمن إعلان “لبنان الكبير” إلى وضع الدستور، ثم الاستقلال، إلى ثورات وحروب وانتفاضات، كانت تحكمها تسويات هشّة ولا تزال. بدليل الأزمة حول المالية. لكنّ الأزمة الحقيقية هي أزمة النظام المسؤول عن إستيلاد المنظومة. هنا المشكلة وهنا الحل.
عباس ضاهر